السلطان المُفتَرى عليه
ننتقل اليوم إلى إستانبول سنة 1876 م حيث تمت مبايعة بطلنا بالخلافة. أصبح الخليفة لرجل أوروبا الضعيف، الامبراطورية العثمانية، التي كانت على مشارف حرب وشيطة مع رسيا الطامعة. لم يكن سلطاننا مقتنعا بالحرب، ويرى أن تفاديها ممكنا. إلا أن المجلس البرلماني المنتخب منذ سنة واحدة فقط انصاع لثورات طلبة العلوم الدينية، وأدخل الدولة العثمانية في حرب هي غير مستعدة لها. وكانت النتيحة، هزيمة كبرى للدولة العثمانية، ووصول الروس لمشارف إستانبول، وقبول الخليفة العثماني بمعاهدة مهينة تحت ضغوط من الدول الأوروبية وحضور الأسطول الإنجليزي إلى ميناء إستانبول لوقف التقدم الروسي. كانت من نتائج المعادة، اقتطاع اجزاء من الدولة العثمانية، وتدفع غرامات باهضة، بالإضافة لتهجير مليون مسلم بلغاري إلى إستانبول. بعد ذلك، قرر خليفتنا إيقاف الدستور، والتفر بالحكم!!
يرى البعض بأن هذا التصرف ديكتاتورية منه، فلم يكن الدستور قد أقر إل منذ سنة واحدة فقط، وكان ينص على أن البرلمان هو من يحكم البلاد، وأن السلاطان لا يحق له أن يتدخل في السياسة. إلا أن آخرين، وهذا أقرب للصواب من وجهة نظرنا، يرون أن حل البرلمان وإيقاف الدستور، أطال في عمر الخلافة الإسلامية 30 سنة!!
كانت سياسات بطلنا حكيمة. حيث استطاق إسقاط 146 مليون قطعة ذهبية من ديون الدولة الثمانية البالغة 252 مليونا عند توليه الحلافة. ووضع بعض مؤسسات الدولة تحت إدارة مؤسسة الديون العامة حتى تمكن من تسديد بقية الديون. ولم يكن يلجئ للاقتراض من الخارج إلا في أضيق الحدود.
ومن أهم توجهات خليفتنا الفكرية، هو توحيد القوى الإسلامية لمواجهة الأطماع الاستعمارية الغربية. لذلك، أمر بإنشاء مشروع حضاري كان له أكبر الدور في شحذ الحماسة الدينية بين المسلمين. فقد أمر الخليفة بإنشاء سكة حديد الحجاز لتيسير الحج على المسلمين، واختصار مسافة القوافل البالغة 40 يوما إلى 5 أيام فقط بالقطار. فهب المسلمون للتبرع، ووصل أول قطار للمدينة المنوّرة في عام 1908 م بعد ثماني سنوات من العمل المتواصل، فاستقبل القطار بالدموع والدعوات "للسلطان عبد الحميد الثاني" خليفة المسلمين.
أما أهم ما يذكر من سيرة هذا الرجل العطرة، هو موقفه من توطين اليهود في فلسطين. فقد جاء وفد يهودي يترأسه هرتزل رئيس الجمعية الصهيونية يعرض عدة ملايين من الليرات الذهبية كهدية للسطلان عبد الحميد، بالإضافة لمليونين ليرة لخزانة الدولة العثمانية، مقابل تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين. إلا أن السلطان عبد الحميد، رغم ضعف دولته، وحاجتها للمال، رفض هذه الرشوة، وطرد الوفد من قصره. وكان هذا الموقف من أكثر ما أغاض الدول المسيحية التي أرادت التخلص من اليهود، فبدأت هذه الدول بالتفكير بالتخلص من هذا الخلفية.
بدأت نهاية خليفتها البطل، على يد حزب الاتحاد والترقي، الذي أسس بالسر، وانضم له عدد كبير من ضباط الجيش العثماني. ففي عام 1909 م حصل اضراب في إستانبول قتل على إثره عدد من جنود حزب الاتحاد والترقي، فتجمعت بعض من قوات الحزب، وانضمت إليها عصابات بلغارية وصربية، وادعت أنها جاءت لإستانبول لإنقاذ الخليفة من الثائرين. إلا أن الجيش الأول الموالي للسلطان عبد الحميد، أعدت العدة لقتال المعتدين. إلا أن السلطان عبد الحمد رفض ذلك، وأخذ القسم من قائد الجيش الأول بعدم استخدام السلاح. فسطى المعتدون على قصر السلطان، وأشاعوا أنه أحرق المصاحف وحرّض المسلمين لقتال بعضهم البعض. وكلها إدعاءات باطلة، والسلطان -رحمه لله- بريئ منها براءة الذئب من دم يوسف.
جرد السلطان من ملكه وممتلكاته، ووضع تحت الرقابة الشديدة في قصر رجل يهودي، حتى توفي في عام 1918 م. فشارك في جنازته عدد كبير من المسلمين، ورثاء عدد من الشعراء بمن فيهم أكبر معارضيه، رضا توفيق، حيث قال:
عندما يذكر التاريخ اسمك
يكون الحق في جانبك ومعك أيها السلطان العظيم
كنا نحن الذين افترينا دون حياء
على أعظم سياسي العصر
قلنا: إن السلطان ظالم، وإن السلطان مجنون
قلنا لا بد من الثورة على السلطان
وصدقنا كل ما قاله لنا الشيطان
رحم الله السلطان عبد الحميد، وأسكنه فسيح جناته.
وبهذا تنتهي رحلتنا لهذا اليوم. فإلى أن نلقاكم في رحلة أخرى، أستودعكم الله.
الموضوع الاصلي
من اوائل البرامج