الكشك في فصل الشتاء
من المأكولات اللبنانية الريفية وهو مؤونة الشتاء تحضر في الصيف منذقديم قدم المأكولات اللبنانية الريفية. لا يمكن أن يغيب عن مائدة اللبنانيين في فصل الشتاء، فهو الطبق الذي يوحدهم على اختلاف ثقافة العيش لديهم. ويحترف انتاجه أبناء مناطق معينة ولا سيما في البقاع والجنوب والجبل، ليتلذذوا بأساليب طهوه، لا سيما اذا طبخ بـ «القورما» أو اللحم المقلي مع الدهون، وقد يلجأ البعض الى التفنّن في طبخه وابدال اللحمة بالعصافير المقلية. مع الاشارة الى أن الكشك يترأس، في التاريخ الغذائي اللبناني مع أنواع أخرى وجبة الفطور من دون أن يفقد موقعه كوجبة كاملة في أي وقت قرّر من يشعر بالجوع أن يتناوله ويستمتع بمذاقه اللذيذ.
فالكشك لطالما اعتبر طبق الفلاحين والمزارعين. لا بديل عنه بعد تعب يوم عمل طويل في الزراعة والحصاد، على اعتبار أنه أسهل المأكولات تحضيرا للطهو، وأكثرها فائدة للصحة. تعتمد مكوناته على البرغل ولبن الماعز ولبنته واحيانا لبنة البقر الطازجة. اما الكميات اللازمة لصنعه فهي تتراوح بين 3 و5 كيلوات من الالبان لكل كيلو من البرغل، مع إضافة ما يلزم من الملح.
تكثر الروايات على ألسنة الأجداد والجدّات لدى اطلاق العنان لذكرياتهم عن مواسم «الكشك». ولطالما أكدوا على مسامعنا أنه اذا كان فصل الصيف هو فصل التحضير لإعداد المؤونة الشتوية بامتياز، فإن للكشك مكانة مهمة لا يمكن أن تلغى عن هذه اللائحة أو يتبدّل موقعها. وفي حين يبدأ تحضير الكشك في منتصف الصيف في المناطق البقاعية وبعض قرى الجبل، فإن فئة كبيرة من أهالي القرى تفضل تحضيره مع إطلالة الخريف، لأن الحليب يكون دسماً أكثر في تلك الفترة من العام.
ومهمة اعداد الكشك تفتح باب المنافسة واسعا بين نساء القرية، لتحاول كل امرأة الإثبات انها تملك حرفية مميزة لصنعه ما يعطي مذاقه خصوصية تختلف باختلاف «نفس» بين هذه القروية أو تلك. وللوصول الى المبتغى المطلوب لا بد من عمل عائلي يشارك فيه الجميع لتوفير أفضل أنواع القمح واللبن، الأمر الذي يجعل رحلة الكشك تمتد أسابيع طويلة بين أيدي أولئك الأجداد، لتبدأ بحصاد القمح وسلقه، ثم تجفيفه وطحنه وتحويله الى برغل قبل أن يصل الى المرحلة الأخيرة ويكون جديرا لينقع ويصنع منه الكشك.
بعد مرور عقود من الزمن تغيّرت مهمة صناعة الكشك، فذللت بعض صعابها مع الحفاظ على الخطوات الاساسية التي من شأنها أن تنتج كشكا اصيلا. فقد بات سهلا الحصول على أنواع اللبن واللبنة جاهزة، ليتم الاستغناء عن «ترويب» الحليب للحصول على اللبن، ومن ثم تجفيفه للحصول على اللبنة.
فقد تولى هذه المهمة الذين لا يزالون يعملون في تربية الماشية، وان بات وجودهم شبه نادر. وتقع مهمة نقع البرغل، على عاتق النسوة اللواتي يرفضن التسليم بتطوّر الحياة، فيقررن تحضير المؤونة بأيديهن.
يقمن بشراء البرغل المخصّص للكشك ونقعه أياما عدة صباحا ومساء، شرط أن يغطى بقماش سميك أبيض يساعد على سرعة الاختمار، مع اختلاف بسيط في عادات صناعة الكشك، وهي أن بعض المناطق تفضّل حليب الماعز فيما مناطق أخرى لا تقبل الا بحليب البقر، لكن في كلتا الحالتين لا بد من اتباع الخطوات نفسها الى أن يختمر البرغل، ويصبح جاهزا للتجفيف.
وللمرحلة هذه متطلباتها في التقاليد اللبنانية، فالنسوة اللواتي يتنافسن على صنع الكشك، يحرصن في الوقت عينه على حفظه جانبا بعيدا عن الحاسدات اللواتي ستصيب أسهم عيونهن الكشك في مرحلة النقع، لا سيما اللواتي اشتهرن بالحسد. وحكايات القرى مليئة بسير مثل تلك النسوة.
وتبرير ذلك هو أن النظرة الحاسدة ستكون كفيلة بافساد عجينة الكشك، وبالتالي ستؤدي الى اتلافه. بعد انتهاء عملية النقع يأتي دور المرحلة التي كانت تعرف بالصعبة والمسلية في الوقت نفسه، وهي تجفيف الخليط بعد تجزئته الى كريات صغيرة توزّع على أقمشة في الهواء الطلق لساعات معدودة قبل أن يحين وقت تفتيته يدويا. وأطرف ما في الأمر ان لصناعة الكشك أعرافا وتقاليد وعادات لا يمكن لمن يشارك في رحلتها أن يخرقها، حتى أنها كانت تتبع بحذافيرها في أوساط أهل القرى الذين لكل منهم نظرته الخاصة الى هذا النوع المهم من المأكولات التراثية. لكن جميعهم كانوا يشاركون في الاجتماع في جلسة «تفتيت» الكشك الذي يتطلّب «سواعد» وأياد شابة للقيام بالمهمة كما يجب.
يتبع .........................
الموضوع الاصلي
من اوائل البرامج