السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يشكو كثير من الأزواج والزوجات من أن الطرف الثاني قليل الوفاء، ويقولون: إن الوفاء، في ظل تعقد الحياة وتغيرها قد قل عما كان عليه لدى الأجيال السابقة.
وابتداءً، فإن الوفاء لا يمكن أن يغيب؛ فالخير موجود في الناس جميعًا، وهو في المسلمين أكثر، ولكنه ربما كان مطمورًا.
ونحن في هذه السطور نحاول أن نبحث عنه، وعن الأسباب التي أدت إلى أن يصبح غير ملحوظ ومشاهد.
ونسأل أيضاً: أيهما أوفى للآخر، الأزواج أم الزوجات؟
أمثلة واقعية
في البداية، لا يمكنني أن أكتب هذا الموضوع دون واقعة سمعتها من صاحبها – رحمه الله – الذي كان ضابطًا وخبيرًا دوليًا وكاتبًا إسلاميًا محترمًا.
جمعني به حفل في بيته، أقامه لضيوف إيطاليين مسلمين، ودعاني لأتعرف مِن هؤلاء على واقع العمل الإسلامي في إيطاليا.
ولأنه وأنا انتهينا من طعامنا قبل الضيوف، فقد انتقلنا إلى الشرفة التي كانت تطل على دار مناسبات تشهد عرسًا في تلك الساعة.
وتطرق الرجل الفاضل - الذي كان في الخامسة والستين من عمره - في حديث عن الذكريات إلى زوجته التي فقدها منذ سنوات طويلة، وكان يتحدث عنها بأحسن حديث حتى بكى بكاءً حارًا ترحمًا عليها.
يقول: على الرغم من أنها لم تنجب، لم نجعل هذا الأمر شاغلنا أبدًا، ولم أضغط عليها في يوم من الأيام، ولم أستجب لإلحاح الأهل لكي أتزوج بمن تنجب.
وكانت – رحمها الله – شديدة الإخلاص والتفاني، فهي مديرة مدرسة، ومع هذا سيدة منزل ممتازة ومؤدبة ووقورة، كانت تجعل بيتنا كالوردة وسط الأهل والجيران والأحباب، وكان عندنا فتًى في الثانية عشرة من عمره، ابن أناس فقراء، أتوْا به ليقضي لنا بعض الحاجيات، وهو كان لم يدخل المدرسة، فظل عندنا عدة أعوام فأحبتْه، وأدخلتْه المدرسة حتى حصل على الثانوية العامة، وانتقل لبيت أهله، ولكنها رعته وأدخلته الجامعة وتخرج، وكان لا يناديها إلاّ بـ "أمي".
وحينما ابتلاها الله بالمرض، كنت شديد الحزن عليها، وحينما علمت بحقيقة مرضها كانت تبكي خوفًاً وإشفاقًاً عليّ، وماتت بين يدي، منذ عشر سنوات، ولم أفكّر في الزواج، فلا أستطيع أن أتصور زوجة مثلها أو حتى نصفها.
ومنذ ذلك اليوم، وأنا أتخذ هذا الرجل الفاضل نموذجًا للوفاء، وقد توفاه الله دون أن يتزوج بعدها، وظلت روحه مرتبطة بزوجته برباط لا يكاد يصدقه الكثيرون، وكنت متأكدًا أنه حتى لو كان قد تزوج، ما كان تعلقه بزوجته الراحلة سيقلّ، وما كان وفاؤه لها سيتأثر في يوم من الأيام.
في الجانب الآخر. لا يمكن أن أنسى جارتنا الحاجة محفوظة التي عاشت بعد زوجها ثلاثين عاماً، وكان لا يمر يوم إلاّ وتتذكره وتثني عليه وتترحم عليه.
كان الناس يتعجبون من هذا الوفاء، وهي لم تكن تحب زوجها وتترحم عليه فحسب، بل كانت تكرم أي فرد من عائلة زوجها، إكرامًا ووفاءً له، على الرغم من أن أولادها موجودون، وهم متعلمون، وكان الطبيعي أن تتعلق بهم وبأولادهم، لكن تعلقها بهم لم يُنسِها زوجَها.
سألتها يومًا، عن سر تعلقها به ووفائها له، حتى بعد هذه الأعوام، فقالت: لأنه أكرمني ولم يهني في يوم من الأيام، فلا أذكر أبدًا أنه سبني أو ضربني مرة، وإنما كان كريم النفس، عفّ اللسان، شديد التحمل. وذات مرة أصابته ضائقة فبعت مصاغي وأعطيته إياه، وبعد أن تجاوز ضائقته رد لي مصاغي، وبعد أعوام اشترى قطعة أرض وكتبها باسمي، فسأظل أذكره حتى يوم مماتي، وأرجو الله أن يجمعني به في جنته.
الوفاء بذل وعطاء
ومن جانبه، يرى د. حسن عبده، الأستاذ بكلية التربية، أن الوفاء يعني الإخلاص، ويعني عدم الغدر والخيانة، ويعني البذل والعطاء، ويعني تذكّر الود والمحافظة على العهد.
والوفاء بين الزوجين يشمل تفاصيل الحياة بين الزوجين؛ ليعيش كل منهما وهو يحمل في قلبه حبًا ووُدًّا ورحمة وتقديرًا وإخلاصًا لا متناهيًا تجاه الطرف الآخر.
فالوفاء يعني البذل والعطاء والتضحية والصبر، وذلك بالاهتمام بمن كنت وفيًا به، والحرص عليه، وعدم التفريط فيه، والخوف عليه من الأذى، ومراعاة شعوره وأحاسيسه، وتقدير جهوده، والشكر لصنائعه، وعدم إفشاء سره، والحفاظ على خصوصياته، والعمل على إسعاده، والثناء الحسن عليه، وذكر محاسنه، وتجاهل أخطائه، والذكرى الجميلة لعهده وأيامه بعد فراقه.
فليس مع الوفاء ترصُّد، ولا تصيُّد، ولا إساءة، ولا ظلم، ولا نكران، ولا جرح، ولا قدح.. الخ، فإن كان ثَمَّة أخطاء للزوجة، فإن مسلك الأوفياء: تجاهل الأخطاء، والتجاوز عنها، وعدم إفشائها ونشرها، مع مراجعة الذاكرة للبحث عن المحاسن والإيجابيات.
ويضيف د. حسن عبده قائلاً: الوفاء بمفهومه الشامل الذي أوضحناه لا يتحقق إلاّ إذا كان بناء هذه العلاقة منذ البداية سليمًا متينًا راسخًا، يقوم على مبادئ، ويسعى لتحقيق أهداف.
والوفاء لا يتحقق إلاّ إذا تضافر له ثلاثة عناصر: الحب، والإنسانية، والإيمان. فالحب محرِّك الوفاء، والإنسانية ضمانه وبها استمراره، والإيمان هو الضابط له، وبه يكمل ويربو.
مشكلات الواقع تؤثر
ولكن الملاحظ أن كثيرًا من النساء يرمين أزواجهن بأنهم عديمو الوفاء، بمجرد أن يتزوجوا عليهن، هكذا يقول الخبير الاجتماعي عبد الفتاح نجم، مضيفًا أن المرأة أرق في مشاعرها وعواطفها، وهي تريد من يعتني بهذا الجانب، ولا يمكن أن تتسامح مع الزواج الثاني لزوجها، بل تعتبره أشد أنواع الخيانة، خاصة إذا كان الزوج في بداية حياته فقيرًا ثم تحسنت أحواله بعد جهاد السنين الذي اشتركت فيه الزوجة الأولى، التي تعتبر أن هذا الزواج تعدٍّ على حقوقها المادية، وكذلك حقوق أولادها، وترى أنها تعبت وشقيت السنين الطوال مع زوجها ثم جاءت الزوجة الجديدة لتأخذ كل شيء (على الجاهز).
ومما يقوي من هذا الموقف النسائي، أن كثيرًا من الرجال حينما يتزوجون الزوجة الثانية يهملون الزوجة الأولى وأولادها ماديًا ومعنويًا، بل إن منهم من يحرمهم من كل ما يملك، بعد أن يقع أسيرًا للزوجة الثانية الشابة والجميلة غالبًا.
لكن إذا كان الرجل عاقلاً ومتزنًا وعادلاً وحكيمًا، ويحفظ جميل زوجته الأولى ويصون سرها ويذكرها بالخير ويكرمها هي وأولادها، ولا يعتدي على حقوقهم، فإنه لا وجه لاتهامه بعدم الوفاء، ففي واقعنا نماذج كثيرة لرجال من هذا النوع، الذين تزوجوا أكثر من واحدة، لكن ظلت الزوجة الأولى معززة مكرمة، فهي أم الأبناء الكبار، وهي الخير والبركة.
سوء المعاملة مدخل أساسي
تؤكد د. جليلة صالح، أستاذة علم النفس، أن الزوجة في الغالب أوفى من الزوج، ومفتاحها هو احترامها وعدم إهانتها؛ فالزوج الذي يحترم زوجته ولا يهينها، فسوف يجد منها وفاءً بلا حدود، أما الإهانة، وخاصة إذا كانت متكررة من الزوج لزوجته، كالتقليل من شأنها، أو سبها، أو ذكر أهلها بالسوء .. الخ، فإن ذلك يولد فيها كراهية هذا الزوج، فهي تضمر له الكراهية حتى لو استمرت الحياة الزوجية لوجود الأبناء.
ومثل هذه الزوجة، لن تكون وفيّة لزوجها أبدًا، سواء في حياته أم بعد وفاته، وقد رأينا زوجات كثيرات لا يذكرن أزواجهن بالخير، بل منهن من تتحدث عنه أمام أهلها وزملائها وصديقاتها بكل سوء.
وعلى الجانب الآخر، ولكي نكون منصفين، لابد أن نؤكد أن الزوجة في أحيان ليست قليلة تقدم لزوجها المسوّغات كيلا يكون وفيًا معها، فكيف للزوج أن يكون وفيًا لزوجة دأبت على عصيانه، والاستهانة به، وتحريض الأهل والأبناء عليه، واستنزافه ماديًا؛ لأنه في نظرها مجرد ممول؟! ثم جعله يعيش في حالة من النكد المتواصل، وهي كثيرة الشراء والإنفاق والاستهلاك..؟!
أو كيف له أن يكون وفيًّا لمن لا تصون ماله وعرضه؟ فكثير من الأسر لديها خلافات كثيرة، ولكن الزوج يكون متأكدًا من إخلاص زوجته له وحبها لبيته وتمسكها به، فنجده يتمسك بها ويقول سامحها الله، إنها جيدة لولا عصبيتها، أو تبذيرها، أو ما شابه ذلك، وهو في الغالب يكون وفيًا لها؛ لأن الخلافات لم تكن في صميم الأخلاق والإخلاص، ولكنها كانت في أمور يمكن تجاوزها والصفح عنها.
الزوجات أكثر وفاءً
تقول د. نبيلة مخلوف، أستاذ علم الاجتماع: المرأة في كثير من الأحيان، وخاصة في المجتمعات الريفية والبدوية، أكثر وفاءً من الرجل في التعامل، في الحياة وبعد الممات، فكثير من النساء اللاتي توفي أزواجهن بالرغم من صغر سنهن، إلاّ أنهن يرين من الوفاء لأزواجهن عدم الإقدام على الزواج مرة أخرى، ويكتفين بتربية الأبناء والبقاء معهم حتى الممات، وهن يرفضن فرصًا للزواج يراها غيرهن من النساء فرصًا محترمة ولا تُعوّض.
ولا تزال الكثير من السيدات يسمين مواليدهن عند وفاة الزوج وأثناء حملهن باسم والده، تيمنًا بذاك الراحل.
فالكثير من النساء الأرامل لا يفكرن في الزواج إلاّ إذا كانت صغيرة في السن، بل إن هناك زوجات صغيرات تُوفي أزواجهن، فرفضن الزواج، وفضّلن تربية الأبناء. وتكثر هذه الحالات عند من يمتلكن دخلاً وعند ميسورات الحال.
لنتعلم الوفاء من رسولنا الحبيب
يقول د. محمد المسير، الأستاذ بجامعة الأزهر: على الأزواج والزوجات أن يتعلموا الوفاء من رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- فقد كان صلى الله عليه وسلَّم وفيًّا لخديجة في حياتها، ووفيًّا لها بعد وفاتها، فهو يذكر أعمالها وأخلاقها، وأيامها وعهدها، رضي الله تعالى عنها، وكيف لا؟ وهي التي آثرته ورغبت فيه، وهي أول من صدَّقه وآمن به، وهي التي ثبَّتَتْ فؤاده وقوَّت عزيمته، وكانت البلسم الشافي لآلامه وأحزانه.
وهي التي واسته بمالها، وهي التي رُزِق منها الولد، وهي التي حفظت عهده، وحافظت على بيته وولده، وغير ذلك الكثير.
وقد قابل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفاءها بوفاء أعظم منه، فكان من وفائه لها، الحزن الشديد على فراقها، وأنه كان يصرِّح بحبه لها حتى بعد وفاتها، وكان يكثر من ذكرها، فيذكر محاسنها: إيمانها وتصديقها، وثباتها وتثبيتها، إنه يذكر أخلاقها الفاضلة، وعاداتها الجميلة، والتزامها، وأدبها، واحترامها، وحسن عشرتها، إنه يذكر بيتها الهادئ، وحياته الهانئة معها.
وكان يَبَرُّ صديقاتها ومن يحبُّها، ويهتمُّ بهنّ حتى بعد وفاتها، يذبح الشاة ويقطّعها ثم يرسلها إليهن.
ومن وفائه لها أنه أكرم امرأة زارته بعد وفاتها؛ لصلتها بها، وما ذاك إلا وفاء لعهدها
منقول
الموضوع الاصلي
من اوائل البرامج